فيما تزداد حدة الخلاف السياسي بين الحكومة والمعارضة في مصر، ومع التدهور الملحوظ في الوضع الإقتصادي، يستمر النقاد في إلقاء الضوء على ما يصفونه بإخفاق الثورة في تحقيق نظام سياسي يستطيع أن يواجه التحديات السياسية والإقتصادية التي تواجه مصر في الفترة الحالية.
وعبر عبد المنعم سعيد بفصاحة عن هذا الإجماع في عموده البارز دائماً في "المصري اليوم" في عدة مقالات متتابعة على مدار الشهر الماضي. وتحدث سعيد عن عجز النخبة التي برزت في أعقاب الثورة عن تخطي الإنتهازية التي اتسم بها رجال الدولة في عهد مبارك، وإخفاقهم في تكوين رؤية ذات معنى تمكن البلاد من سد فجوة التقدم القائمة بينها وبين باقي بلدان العالم.
وفي مقاله الأخير، "باب الخروج"، يسعى سعيد إلى إيجاد سبيل للخروج من الأزمة الحالية وما تنطوي عليه من انعدام للإستقرار، بل ويتناول بشكل أعم كيفية التخلص من الأنماط المتكررة من الحكم الاستبدادي التي اتسم بها حكم مصر في معظم فترات تاريخها الحديث. ويقدم سعيد رأياً مثيراً للجدل، فهو يرى أن الحل يكمن في حقوق الملكية والانتخابات.
يقول سعيد:"فى البلاد الحرة والمتقدمة يمتلك الشعب الوطن، ولا ينتفع به لسنوات يجرى عدّها، ولمن لا يعرف فإن أصل الحرية هى الملكية لأن من لا يملك لا يكون مستقلاً عن الدولة التى إذا امتلكت عيشه حصلت على صوته ورقبته أيضاً."
أما الجزء الثاني من الحل المزعوم، فيتمثل في انتخابات حرة خاضعة للرقابة الدولية تحل الأزمة بين الحكومة والمعارضة عبر خلق نظام سياسي يشعر فيه الخاسرون اليوم بأنهم يقدرون على الفوز في الغد. يقول سعيد:"التعامل مع المعارضة ليس سراً على أحد، ومن يريد الخلاص من صداع الشك والهواجس والثقة المفقودة فما عليه إلا أن يفعل كل ما سبقتنا إليه غالبية دول العالم الجديدة على الديمقراطية باعتماد الإشراف الدولى من خلال الأمم المتحدة، وليس جيمى كارتر، على الانتخابات. وباختصار علينا اعتماد اللعبة الدولية فى السياسة حيث يمكن، وبالفعل يمكن، أن يساهم الجميع بالعدل حينما يعرفون أن السلطة يمكن تداولها بسلام ومن خلال صناديق الانتخابات التى لا تعطى أسرارها لطرف واحد إلى الأبد كما جرى فى التاريخ المصرى القريب."
بشكل ما، تعكس رؤية سعيد إجماعاً ليبرالياً سائداً على أن حسن تنظيم المؤسسات السياسية، جنباً إلى جنب مع الحريات السلبية، قد يبتعد بدولة كمصرعن أزمتها السياسية الحالية ويحقق لها التوازن الديمقراطي. بمعنى آخر، أن التحديات القائمة تتمحور حول بناء المؤسسات السياسية بشكل صحيح.
إن ما تتجاهله هذه النظرية، سواء عن قصد أو غير قصد، هو لب الصراعات الإجتماعية التي أثارت موجات الحراك الشعبي منذ قيام ثورة 25 يناير أو قبلها. إنها تتجاهل وتقلل من حقيقة أن المظالم الإجتماعية والإقتصادية كانت في مقدمة المطالب الشعبية التي غذت، ولا تزال تغذي، الصراع بين المواطنين والحكومة على مدار عقد مضى.
لو قبلنا بذلك الزعم ظاهرياً، فلن يكون من الممكن الإستمرار في الإفتراض بأن موجات الغضب الشعبي ستختفي ما إن يتفق الإخوان المسلمون مع خصومهم على دستور بديل، وخطة لتقاسم السلطة، وقانون جديد للإنتخابات، وآلية لمراقبة التصويت. السبب في ذلك، وعلى عكس النظرة المتفائلة لقطاع عريض من النخبة، هو أن ثورة يناير والحراك الشعبي الذي أحدثته لم يكونا مجرد ثورة سياسية خالصة لإستبدال الديكتاتورية وفرض الإجراءات الديمقراطية الليبرالية على المؤسسات. الثورة لم تستهدف الإستبداد السياسي وحسب، ولكن أيضاً سياسات التهميش الإقتصادي التي لا تزال تخفق في تلبية مطالب الشعب المتمثلة في التوزيع العادل.
وفي هذا السياق، يمكن القول بأن المخرج من الأزمة الحالية لا يكمن وحسب في تصحيح عمل المؤسسات السياسية، ولكن في البدء أولا في وضع عقد اجتماعي جديد بين الدولة ومواطنيها، وإعادة تحديد شروط التنمية الإقتصادية بشكل يتماشى مع المطالب الشعبية الخاصة بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية.
ولا يمكن إغفال أن العامين الماضيين شهدا انهيار نظرية سعيد التي يقدمها كحل للأزمة المصرية. فعلى الرغم من توجه المصريين لصناديق الاقتراع لأكثر من مرة خلال تلك الفترة، وبالرغم من إنتخابهم لرئيس وبرلمان، إلا أن الحراك الشعبي المناهض للحكومة زاد حدة بدلا من أن يهدأ.
بل إن النخبة الليبرالية دهشت إلى حد ما في بعض الأحيان لمطالبة الحراك الشعبي بإسقاط المؤسسات المنتخبة ديمقراطياً. وربما تكون تلك الحقيقة المربكة هي ما دفعت سعيد لأن يكون أكثر دقة في زعمه بأن الإنتخابات هي الحل، فهو يضيف أن الأمم المتحدة، لا جيمي كارتر، ينبغي أن تكون هي المسؤولة عن مراقبة التصويت؛ وكأن مصداقية المراقبين الدوليين في الانتخابات السابقة تكفي لتفسير إخفاق الإنتخابات الحالية في إنهاء الغضب الشعبي في مصر.
بصرف النظر عن عبثية هذا التفكير، يمكنني القول بأن فشل الإنتخابات المتعاقبة في مصر منذ 2011 لا يرجع إلى عيوب فنية، بل إلى عجزها عن تحقيق المرجو منها، والمتمثل في عقد إجتماعي جديد يحقق "العدالة الإجتماعية" التي طالب بها الشعب من خلال ثورة "العيش والحرية والعدالة الإجتماعية". بل إن تلك الرؤية تثبت بشكل أوضح عندما نرى المسؤولين المنتخبين وهم يعيدون تنفيذ السياسات الإقتصادية الإقصائية التي تنباها مبارك فيما يتفاوضون خلف الأبواب المغلقة مع صندوق النقد الدولي حول المستقبل الإقتصادي للبلاد دون التشاور بشكل كاف مع أصحاب الشأن في الداخل.
قد يزعم البعض أن الإنتخابات النزيهة والحرة، إن أديرت بشكل صحيح، بمقدورها أن تحقق وعود ثورة يناير ومن شاركوا فيها. إلا ان ذلك الزعم يتغاضى عن الدور السييء الذي تلعبه السياسات الإنتخابية في إبعاد القضايا التي تهم المهمشين إجتماعياً عن الساحة السياسية.
وتعد تجربة إنتخابات 2011-2012 مثالاً على ذلك. فقد أخفقت الإئتلافات المنادية بالتوزيع العادل، مثل "الثورة مستمرة"، في تحقيق تمثيل حقيقي لها في البرلمان، وهو ما يعكس سيطرة الأحزاب ذات القدرات المادية والأسماء الكبيرة على الساحة السياسية، مما يصعب مهمة أنصار الطبقات المهمشة لتحقيق النجاح السياسي.
وفي ذلك السياق، يواجه التصور الليبرالي لإنتخابات حرة ونزيهة تناقضاً لا يمكن التغلب عليه: فكيف يمكن للإنتخابات الحرة أن تنشئ ساحة سياسية قادرة على حل الصراعات الدائرة حول الحقوق الإقتصادية والإجتماعية في الوقت الذي يقف فيه أصحاب تلك الحقوق والمطالب خارج تلك الساحة بشكل إفتراضي؟ ومن هذا المنطلق، يصبح ما يراه الليبراليون في الإنتخابات من قدرة على حل الأزمات التي تمزق البلاد لا يعتدى كونه وهماً.
إن الحلول والتنازلات الإجتماعاية المطلوبة لإيجاد "باب الخروج" من المعضلة الحالية هي شديدة العمق بحيث لا يمكن تحقيقها عبر الإنتخابات مهما بلغت نزاهتها.
[نُشِر باللغة الإنجلزية في أخر عدد من جريدة "إيجبت إندبندت" والذي مُنِع من الطبع. وترجمه للعربية محمد مصطفى.]